كلمة العدد

نوع المستند : أبحاث متخصصة فی الفقه والأصول

المؤلف

مفتي الديار المصرية

المستخلص

بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد.
 
فإن التيسيرَ والسماحةَ وسهولةَ التطبيقِ وتنزيل الأحكام الشرعية الثابتة في الكتاب والسنة على الواقع بما يوافق حالةَ الإنسان الخاصةِ وظروفَ المجتمعات بشكل عامٍّ يُعدُّ من أهم خصائص الشريعة الإسلامية الغراء؛ وقد استتبع ذلك بالضرورة صلاحيةَ هذه الشريعة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ ومرونتها الكبيرة في مواجهة النوازل والقضايا التي تستجِدُّ؛ ذلك لأن الشريعة الإسلامية ربانيةُ المصدر؛ قد جاءت بواسطة الوحي من لدن الحكيم الخبير تبارك وتعالى؛ مراعيةً لمصالح العباد؛ نافيةً لجميع صور التشدد والغلو والتضييق؛ يقول عز وجل: ﴿ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾[المائدة: 6]، ويقول سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة: 185]، ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «إِنَّما بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ».
 
وحينما نتكلم عن مرونة الفقه الإسلامي وقدرته على مسايرة القضايا المعاصرة والنوازل والمستجدات وتفاعله معها والتأصيل الشرعي لها ووضعها في الإطار الصحيح والتعامل معها وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة على المستوى العام والخاص؛ لا يعني ذلك أبدًا أن هذه العملية  تتم بدون ضوابط أو أنها مجرد دعوى دون حدودٍ تؤدِّي للتفلُّت، وإنما هي دعوى للتفكُّر وبيان قدرة تراثنا الفقهي على تقديم مفاتيحَ معرفيةٍ عصريةٍ يتم من خلالها تلبية حاجة الإنسان المعاصر داخل دائرة الشريعة؛ مع مراعاة الضوابط الحاكمة لهذه العملية الفكرية؛ مثل الانتباه إلى قضية ثوابت الشريعة ومتغيراتها، وما هو مُجمَعٌ عليه عند المسلمين، والقطعي والظني من حيث الثبوت أو الدلالة، والتقيُّد بمعاني اليُسر في الكتاب والسنة،  وعدم مجاوزة النص أو استنباط معنًى يَكِرُّ على أحد  الأحكام الشرعية والمعاني الدينية بالبطلان، وضرورة أن يكون  القائم بالاجتهاد من أهل العلم المتمتعين بالملكة الفقهية مع ثاقب النظر والإحاطة بالواقع الخاص بالقضية محل الاجتهاد؛ مع الاستعانة بمن يتم الحاجة إليهم من الخبراء وأهل الاختصاص كالأطباء وعلماء الاقتصاد وغيرهم، وذلك لشرح أبعاد القضايا مما يوفر المعرفة الصحيحة والمعطيات الكاملة التي تُنتِجُ أحكامًا صحيحةً، وإنما يتم ذلك كله في إطار مؤسسي شديد التخصص والإحكام.
 
ومن هنا يُعرَف أن مجالات الدراسات والوظائف الشرعية بمختلف أنواعها لابد أن تُبنَى على ثلاثة أركان ضرورية لا يُستغنى بأحدها عن الآخر؛ أولها فقه النص، وهو الضابط لعدم التفلُّت في الفكر والتطبيق، والركن الثاني فقه الواقع، وهو الضامن لعدم الجمود، والركن الثالث فقه تنزيل النصوص على الواقع والوقائع، وهو الضامن للمرونة ومسايرة العصر، والمتمعِّن في الفقه الإسلامي وقضاياه ومسائله عبر القرون سوف يجد منظومةً متكاملة من الآراء الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله واستنباط أهل العلم صالحةً لأن تكون منهجًا وأصولًا للتعامل مع القضايا المستحدثة والمسائل التي فرضتها طبيعة الحياة المعاصرة؛ وإنما نبع ذلك من تفعيل علماء الأمة لهذه الثلاثة الأركان في كلِّ قضيةٍ ونازلةٍ واجهتهم.
 
وتأكيدًا على شمول الشريعة الإسلامية ومناسبتها لكل زمانٍ ومكان، وأيضًا للوصول إلى وعي عميق بمرونة الفقه الإسلامي واشتماله على الأسس والمبادئ التي تضبط التعامل مع النوازل والمستحدثات في كل عصر، وحرصًا على الإسهام في تأصيلٍ دقيقٍ لبعض هذه النوازل والمستحدثات من الجهة الشرعية؛ انطلاقًا من ذلك كله حرصت دار الإفتاء المصرية على دعوة عددٍ من علماء الشريعة الإسلامية للإسهام بأبحاثهم حول عدة قضايا، وكانت ثمرة ذلك أن كتب فضيلة الأستاذ الدكتور إبراهيم بن مبارك السناني الأستاذ بقسم الفقه بالجامعة الإسلامية المدينة المنورة دراسةً فقهيةً مقارنة عن أحكام الآجال في عقود المعاوضة والإرفاق؛ بما لهذه القضية من أثرٍ كبيرٍ على ضبط كثيرٍ من المعاملات المالية المعاصرة وَفق أحكام الشريعة الإسلامية.
وكتب فضيلة الدكتور أحمد سعد علي البرعي أستاذ الفقه المقارن المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة بجامعة الأزهر بحثًا ماتعًا عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي والروبوت من منظور الفقه الإسلامي؛ تناول فيه -فيما تناول- أثر الذكاء الاصطناعي في العقود والمعاملات، وما تثيره الروبوتات المستقلة من نوازل فقهية، والتكييف الفقهي للروبوتات المستقِلَّة من حيث الأهلية والطبيعة القانونية، وضمان ما تُحدثه الروبوتات المستقلة من أضرار في الشريعة الإسلامية، وزرع الروبوتات في الأجسام البشرية من منظور الفقه الإسلامي.
كما كتبت د. نجلاء المتولي الشحات المرساوي المدرس بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالمنصورة دراسة فقهية مقارنة مؤصَّلَة عن الأحكام الفقهية المتعلقة بقسمة المهايأة التي تُمثِّل سبيلًا وضعته الشريعة لدرءِ كثيرٍ من المنازعات في الملك المشتَرَك؛ ولا ريب أن ذلك يلفِتُ إلى البحث في ثنايا الفقه الإسلامي عن أدواتٍ ووسائل يمكن أن يُعاد تفعيلها مع وضع الآليات التي تناسب العصر وَفق الأحكام الشرعية فتحقق مقصد الشريعة الأكبر من مراعاة مصلحة الخلق في الدنيا والآخرة.
ونقدم للقراء الكرام هذه البحوث الثلاثة لتكون إسهامًا لمجلة دار الإفتاء المصرية في القيام بالواجب الديني نحو تفعيل الفقه الإسلامي والتأكيد على مرونته ووفائه بحاجات هذا العصر من النوازل والوقائع والمستحدثات؛ ومن ثَمَّ جاء هذا العدد.